شهود إثبات


المُنشـَق

تأليف : ايليني كازانتزاكي

ترجمة : محمد علي اليوسفي

الناشر : دار الآداب ، بيروت ، 1995

عدد الصفحات : 534 صفحة من القَطع الكبير

     هذا واحدٌ من الكتب التي لم أرتوِ من قراءةٍ واحدة لها ، و هو من الكتب التي أعودُ اليها بين فترة و أخرى للتطهير و الغنى المعرفي و الروحي ، و لا أنسى ـ في قراءتي الأولى له ـ دقائقَ انهمار دموعي التي رافقت قراءتي للصفحات الأخيرة من هذا السِفر الإنساني العميق الذي وثـّق طبيعة حياة و عمل و انشغالات و هموم و طموحات واحدٍ من أعظم و أجلِّ كتاب القرن العشرين ” نيكوس كازانتزاكي ” .

     كتاب ( المُنشق ) وضعته ” ايليني كازانتزاكي ” ، الزوجة الثانية للكاتب ، و التي شاركته السنواتِ الأهمَّ و الأعمقَ من رحلته في الحياة حتى لحظة إغماضة عينيه الى الأبد بين يديها ، فدوّنت كل ذلك برقّةٍ و عمقٍ و تأثرٍ في هذا الكتاب الذي سأنقل منه اليكم ثلاثاً من رسائل ” نيكوس ” اليها .

      ولكن قبل ذلك ، سأنقل بعضاً من مقدمة مترجم هذا الكتاب المؤثر ، الأستاذ ” محمد علي اليوسفي ” ، المترجم التونسي المعروف الذي أغنى المكتبة العربية بترجماته المختارة بحرص و دقةٍ أثرى بهما ذائقتنا الثقافية و عمّق حساسيتَنا الإبداعية و أنار سُبُلَنا المعرفية .

هادي ياسين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مقدمة المترجم :

      لا يستطيع قارئُ هذا الكتاب أن يخرج سليماً من ” عدوىً ” ما ، و حتى اذا كان هذا القارئ من غير المتحمسين لأعمال ” نيكوس كازنتزاكي ” ، مثل ” زوربا ” و ” الإغواء الأخير ” و ” الإخوة الأعداء ” و ” تقرير الى آل غريكو ” و ” المسيح يُصلب من جديد ” وغيرها ، فإنه يجد نفسَه ، هذه المرّة ، أمام عملٍ من نوع خاص  ، هو عملٌ نسجَهُ ” كازنتزاكي ” في عزلته الأثيرة ، خيطاً خيطاً ، على غرار بعض الكائنات التي تبكّر فجراً من أجل اصطياد ما تجودُ به الدنيا و تتلهف اليه الروح . 

     هذا العملُ المختلفُ و الرائع هو حياته التي أرادها كما عاشها . وعاشها أيضا كما أرادها ، لأنه كان يرفض كلَّ ما هو مختلف عمّا رسمه لنفسه من مبادئَ و رغباتٍ و سلوكٍ ، و رؤيةٍ للعالم قبل كل شيء . تلك الرؤية التي لم تقتصر على الإرث الاغريقي و سِيَر عظماء اليونان ، بل اغتنت أيضاً ، منذ البدء ، برؤىً اشراقيةٍ متأتية من تأثر ” كازنتزاكي ” العارم بـ ” فريدريك نيتشه ” ، و ” هنري برغسون ” ( و قد تتلمذ على يديه في باريس ) و التصوف البيزنطي و الإسلامي ، لذلك نجد قاموسَه اللغوي غنياً بمفرداتٍ و مصطلحاتٍ مثل : الروح ، الجسد ، في ثنائيتهما الأبدية ، و كذلك الوثبة الخلاقة ( أو الوثوب الخلاق ) و لحظة الحدس الاشراقي و الأحاسيس بمختلف معادلاتها اللغوية الممكنة و الكائن الأسمى المتفوق ..الخ .

     لكنّ ذلك لم يمنع “كازنتزاكي ” من النهل انطلاقا من روح الشعب المعذبة في جزيرته ” كريت ” كما في أرجاء العالم ، معتبراً أن الروحَ السامية تلعب دورَ ” المحامي ” الذي يرافع أمام محكمة الكون و دفاعاً عن عامة الناس و قضاياهم النبيلة . غير أن ذلك الدفاع يُثري الروحَ بدورها لأنها كما في ” زوربا ” تقارع فلسفة ً أخرى ، هي فلسفة العيش التي يرسمها رجلٌ من عامة الشعب يُدعى ” زوربا ” و سوف نجده في هذا الكتاب رجلاً من لحم و دم ، عبر رسائله ، متابعاً لعبتَه العبثية هرباً من العجز والشيخوخة ( لم أتزوج إلاّ من باب المزاح . السيدة زوجتي توفيت ، و حسناً فعلت . لا أخشى الموت و لا أخشى أخطر عناصر الطبيعة حتى اذا جاء ذنَبُ نيزكٍ ليضربنا و يحوّلنا الى سلاطة طماطم .. الشيخوخة تخيفني و أجد نفسي تحت رحمة قرارٍ عائلي يأمرني بمراقبة وحشٍ ، طفلٍ صغير ، حتى لا يحرق نفسَه ، حتى لا يسقط ، حتى لا يتعلم الرذالات ) . ذلك ما يكتبه في رسالة الى ” كازنتزاكي ” بعد هجرته الى مناجم أخرى في صربيا بحثا عن المال الذي ” يستر ” به شيخوخته . 

    و ليس الشخوص وحدهم هم الذين يتقاطعون في حياة ” كازنتزاكي ” و أعماله ، كما لاحظنا مع ” زوربا ” بل هناك اللغة أيضاً ، اذ أن بعض المقاطع في رسائله تتشابه و الكثير من المقاطع في مؤلفاته ولا سيما ” الأوديسة ” ** التي ظلت ترافقه طيلة حياته ” كمشروع عمر ” .

    و يضيف المترجم ، الأستاذ ” اليوسفي ” ، في مقدمته :

     إن كتاب ( المُنشَق ) الذي ألّفته ” ايليني ” زوجة ” كازانتزاكي ” الثانية ، من خلال جمعِ رسائله و مذكراته و بعضِ نصوصه غير المنشورة ، يبيّنُ أن حياته ، على خلاف الكثير من الكتّاب الكبار ، كانت متطابقة مع أعماله الى حد التداخل . و يكشفُ هذا الكتاب عن كفاح رجلٍ لم يتزحزح عن مواقفه برغم كل المصائب التي حلّت به . لكنه يتصمّن أيضاً قصة حبٍ فريدة ، يمكن أن تشكّل زاويةً أخرى لقراءة الكتاب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من رسائل ” نيكوس كازانتزاكي ” الى زوجته ” ايليني “

مدريد ، 8 ديسمبر 1932

    .. أدركتُ من خلالِ أغنيةٍ شعبية ، سمعتُها أولَ أمس ، أنني عشتُ حياتي سُدىً . و لو عدت الى هذه الأرض لاخترتُ ، بالتأكيد ، طريقاً آخر . لكنني لا أتمنى العودة اليها . عندما أشم رائحة التربة المبلولة ، ينقبض قلبي و تملأني العودة الى حضن الأرض بفرح مُر .

    أتذكر أنني التفتُ ، عند منعطف الشارع ، أثناء توجهي الى الميناء ، و رأيتُ أمي ـ لآخر مرة ـ واقفة ً على العتبة تبكي . و هي الآن موجودة في الضفة الأخرى و تناديني . و لم تعد الأرض تزدريني . لا يمر يومٌ دون أن تتملكني هذه الرؤيا ، و لا تمر ليلةٌ دون رؤية أمي في الحلم . لقد اكتسب الجحيمُ تـألقاً غير معهود ، و أعتقد أنك الوحيدةُ القادرةُ على استبقائي في هذه الأرض .

    ليس ذلك ما أريد التحدثَ عنه .. أحتاجُ الى ( الأوديسة ) أكثر من أي وقت مضى ، كي أمنع قلبي من التفتت ، إنها تشبه الخمرة التي تزوّد بالنسيان . لكنني لم أتوصل الى الإنتشاء و فقدان الذاكرة مطلقاً .

ليلة 21 فبراير 1935

     مازلنا في قناة السويس الشهيرة . على يسارنا صحراءُ العرب ، رتيبة ٌ بلا أشجار ، و لا حتى بيت واحد . و على يميننا الأرض المصرية منبسطة بنخيلها و قُراها . و هكذا ننزل الى البحر الأحمر، بين افريقيا و آسيا .

     تعرفتُ الى ياباني مسيحي ! تحدثنا مطولاً عن الدين . تحمّس و بدأ يؤلف كتاباً سوف يحمل عنوان ” كوكورو مان ” ( كوكورو ، باليابانية ، تعني ” قلب ” ) لأنني سمّيت له المسيح بذلك الإسم . لقد فتنته الفكرة و هاهوذا يشرع ، منذ الآن ، في تأليف كتابٍ ليتحدث فيه عن رؤية اليابانيين للديانة المسيحية .. إن البشرَ في كل مكان متعطشون للكلمة الطيبة ، و كثيراً ما تكون الكلمة الطيبة خصبة ..

     تجلس الى المائدة ، بجانبي ، تلك المرأة الفرنسية السَمجة ، و لم أكلّمها و لن أفعل ذلك . نتناول وجبات نصف أوروبية ، نصف يابانية . و الفرنسية تشم و تشَمشِم ، و تمط شفتيها اشمئزازاً ، فالأكل لا يروق لها . أما أنا فآكل بنهم ، لقد بدأت أتأقلم ..

25 فبراير 1935

    أحياناً يثب دلفين ، و حولنا تطير النوارس ، و في هذا الصباح جاء طائرٌ أحمر من الحبشة . غرّد مرة أو مرتين ثم طار . هذا المساء ندخل المحيط الهندي . المسافرون يتململون من شدة الضجر . لا أحد يطالع . يشغّلون الفونوغراف ( الحاكي ) و يرقصون . في البداية كلُّ واحدٍ بمفرده ، و لا يتحدث الى أحد ، و الآن بدأ الجميعُ يتبادلون الحديث ، و حيثُما كنتَ يقتربُ منكَ أحدُهم محاولاً التحدثَ بتعلّة السؤالِ عن الساعة .. و بهذه الطريقة تعرّفت الى إنجليزيةٍ ثرية ، حيوية ، ثقيلة الفك ، تسافر الى الصين برفقة زوجها .. ألعب ” الدك ـ غولف ” أحياناً .. لكنني أمضي النهارَ كله تقريباً في القراءة .. خلالَ ثمانيةِ أيامٍ نبلغ كولومبو .. و تبقى لنا خمسة عشر يوماً لبلوغ شنغهاي .. أنها رحلة طويلة مُضْجِرة ، و لاسيّما الآن ، لأننا لم نعد نرى اليابسة ، و لا شيء غير البحر ، بلا نهاية و لا فائدة ..

     صارت الرحلةُ رتيبة ً ، و المسافرون يفقدون صوابَهم .. فيلعبون الألعابَ نفسَها و يُعيدون الدعاباتِ نفسَها ، لكنهم يَضْحُون أقل ..

أطالع ، يومياً ، كتابين أو ثلاثة من المكتبة الفظيعة التابعة للباخرة ، و أعيد قراءة قصائدك فأعدّل قليلاً ، لكن بشكل مُجْدٍ .

كنت أودّ كتابة نشيدٍ جديد غير أن الأجواءَ غيرُ مناسبة . حرارة ٌ عالية .. كلَّ يومٍ نقدّم ساعاتِنا بقَدْرِ نصفِ ساعة . حبيبتي ، أنت الوحيدة ُ التي توجدين ، و حتى السفر في المحيط الهندي ما هو إلاّ أسطورة ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابطٌ لمقاطع من فيلم ( زوربا ) ـ بطولة ” أنتوني كوين ” و ” ارين باباس ” ،الذي ساهم في تغيير المفاهيم الفكرية و الحساسيات الثقافية في العالم خلال عقد الستينيات من القرن العشرين :

http://youtu.be/FgyGwSGwHdQ

رابط لموسيقى فيلم ” زوربا ” الشهيرة ، التي ألّفها الموسيقار اليوناني الشهير ” ثيودوراكس ” .

http://youtu.be/4UV6HVMRmdk

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الأستاذ ” محمد علي اليوسفي ” ، مترجمٌ من تونس ، هو واحدٌ من أهم المترجمين العرب ، و يمكن تصنيفه ضمن رعيل المترجمين المؤثرين ما بعد رعيل ” سامي الدروبي ” و ” جبرا ابراهيم جبرا ” .

      قدّم ” اليوسفي ” لنا ، و للأجيال القادمة ، ثراءً تــُـرفع القبعاتُ له ، سواء على مستوى الإبداع الشخصي في الشعر و الرواية ، أو على مستوى الترجمة في مختلف شعاب الإبداع و الثقافة و المعرفة ، لا يسع المجال هنا لذِكرُها .. لطول قائمتها .

شخصياً أتشرف بأن ” محمد علي اليوسفي ” صديقي ، في الأقل في ( الفيسبوك ) . فأنا ممتن كثيراً له ، فمن خلاله قرأتُ كتباً مهمة و مؤثرة ترجمها ، في الرواية و الفكر و السيرة ، ساهمت في ذائقتي و وعيي الثقافيين ، و منها هذا الكتاب المؤثر حدَّ الدمع و الباعثُ على التأمل : ( المُنشَق ) .

** ( الأوديسة ) عملٌ شعري كتبه ” كازانتزاكي ” على مدى تسعة أعوام ( 1929 ـ 1938 ) في 33333 بيتاً شعرياً .. باعتماد وزن مبتكر .

نيكوس كازانتزاكينيكوس كازانتزاكي

" نيكوس " و " ايليني كازانتزاكي "” نيكوس ” و ” ايليني كازانتزاكي “

كتاب ( المُنشَق ) ـ طبعة ( دار الآداب ) ـ في طبع إعلاني غير موفقكتاب ( المُنشَق ) ـ طبعة ( دار الآداب ) ـ في طبع إعلاني غير موفق

كتاب ( المُنشق ) ، طبعةٌ أخرى ، من ( الهيئة المصرية العامة للكتاب ) .

المُنشق، طبعةٌ أخرى، من الهيئة المصرية العامة للكتاب

( زوربا ) ، تأليف " كازانتزاكي " واحدةٌ من أشهر الروايات في العالم( زوربا ) ، تأليف ” كازانتزاكي ” واحدةٌ من أشهر الروايات في العالم

ميكيس ثيودوراكس ، مؤلف موسيقى زورباميكيس ثيودوراكس ، مؤلف موسيقى زوربا

نيكوس كازانتزاكينيكوس كازانتزاكي

محمد علي اليوسفيمحمد علي اليوسفي

*

البيت الكبير، تقديم ماركيز، ترجمة محمد علي اليوسفي: مذبحة الموز

البيت الكبير

لم يتوقع ابن الخامسة أنّه سيشاهد من منزله الصغير تلك الحادثة المروعة التي راح ضحيتها مئات من المزارعين المحتجين في محطة القطار التي تلتصق بحي العائلة في كولومبيا. إنّه ألفارو سيبيدا ساموديو الفتى الذي كون ذاكرته عن هذا الحادث الأليم بعد تمدد شركات الفواكه وصدام المصالح النظامية مع حاجات أولئك المزارعين الذين خلدتهم الأعمال الروائية بداية بعمل «البيت الكبير» لساموديو الكاتب الصحافي الذي تلقى تعليما رفيعا في أمريكا، فيكون له السبق على العلوم الحديثة ولتنصب اهتماماته الصحافية على الجوانب السياسية، واضعا يده على معارف جديدة لم تتوفر بعد لرفاقه الآخرين ومنهم الكاتب الكبير جبرييل غارسيا ماركيز الذي يصغره في العمر حينها، ويعيش بالقرية ذاتها التي شهدت الحادثة المروعة، وهي قرية «أراكاتاكا» الكولومبية. تلك القرية التي ستعلو إلى مصاف قرية العالم برمز «ماكوندو» في الرواية الخالدة «مائة عام من العزلة» التي اتخذت من مذبحة الموز مفهوم الثورة؛ بينما رواية «البيت الكبير» ذهبت في هذه الثورة ووقفت داخل الجراح بقراءة نفسية فذة امتدحها الماركيز في تقديمه للرواية قبل أن ينشر عمله بخمس سنوات.
اليوم تعيد دار طوى اللندنية طباعة هذه الرواية للمترجم الكبير التونسي محمد علي اليوسفي الذي كان قد نشرها في دار منارات الأردنية في 1986م، هذه الرواية التي قامت على لحظة هلع هزت أمريكا اللاتينية لتواجه حقيقة إنسان العصر القادم من أفكار الاستعمار الحديث بالحديد واغتصاب قوت اليوم وأمان العيش، فنهضت الرواية على وهلة الصرخة، ولكنها لم تدون أي طلقة أو صورة للمذبحة البشعة ببنادق السلطة المتواطئة مع الشركات الأمريكية. اختار ألفارو سيبيدا ساموديو أن يكتب في الوجع لا الدم، وكانت مفخرته الباقية في الورق قبل أن تكون في الذاكرة، أما الماركيز فترك العنان للسلاح وأرخ لتلك الواقعة في روايته «مائة عام من العزلة»؛ متقصيا شخصيات محددة تواترت في أعمال أخرى. وتعد «البيت الكبير» اليوم أهم ما أنجز كشاهد على تاريخ حركات التحرر والثورة ليس في كولومبيا وحسب، بل حتى في أمريكا اللاتينية التي أنجبت ذلك الواقع المرير، فتحول إلى سحر تجاوز حدودها مؤسسا تحولا في الأدب العالمي؛ وليبرز اسم الفارو سيبيدا ساموديو كرائد في الكتابة الشعرية الروائية، حتى عرف لاحقا على يد صديقه جابرييل غارسيا ماركيز وسمي بالواقعية السحرية.
(عكاظ (الرياض)

*

مع إميل سيوران

Cioran

أنا اليوم لا أكتب لكنني أجلس أمام أحد أعظم الأقلام لأستمع وأستمتع باضطراباته التي تخرج على شكل أحرف وكلمات وسطور، فكل كتابات المبدع العدمي إميل سيوران لم تمل إلي التماسك في الموضوع والمضمون والفكرة، كان يكتب رسائل قصيرة عن فكرة مضطربة تجول في خاطره، من أجل تلك الفكرة كسر إميل سيوران كل أنماط كتابة عصره ووقته وأنشأ لنفسه أسلوبا مميزا في الكتابة يعبر به عن نفسه وعن أفكاره.

ستلمس هذا الأسلوب عندما تتصفح أحد كتبه الشهيرة لتقف أمام صفحات مملوءة بالتويتات tweets التي غرد بها في وقت ما قبل أن تقدم لنا التكنولوجيا والتطور موقع التواصل الاجتماعي تويتر tweeter. أري ذلك جليا في كتابيه “لو كان آدم سعيدا” ترجمة محمد على اليوسفي و”مثالب الولادة” ترجمة أدم فتحي.

ستتعرض في بداية الكتاب إلي فكرة إميل سيوران عن الكتابة عن الأشخاص والتي أخالفها أنا اليوم بمحاولة كتابتي عنه هو شخصيا، قال إميل سيوران في كتابه الذي أشرت إليه سابقا “لو كان آدم سعيدا” ” لا ينبغي الكتابة عن أحد، أبدا. لقد اقتنعت بجدوى هذه الفكرة إلى درجة أنني كلما ملت إلى فعل ذلك، كانت فكرتي الأولى أن أهاجم الشخص الذي سأكتب عنه، حتى وإن كنت معجبا به”. من هذا المنطلق لم يكن سيوران يطلق أحكاما على أشخاص ولا عن ماهياتهم وسلوكهم.

عند سؤاله عن دافعه للكتابة وكم الأفكار الذي يطرحها في تلك الاقتباسات والاختلاجات الموروثة عنه يقول لك بصوت ثابت قادم لك من بين سحائب دخان سيجارته “أحن إلي ما قبل النشأة”. هكذا هو إميل سيوران الذي لا تمل ولا تكل من قراءة كلماته، تجبرك كلماته على الاستمرار في التفكير بلا قدرة على السيطرة على كم الأفكار التي تتفجر من رأسك، تعرفت عليه من خلال صديقي الكاتب المبدع أحمد قاسم ولا أعلم لماذا أشعر أنني وهو في بوتقة واحدة رغم الاختلاف الظاهري بيننا.

وإليكم بعض من اضطرابات إميل سيوران التي تطمئنني:
“الإنسان كائن يفرز الكارثة”. من كتاب موجز التفكيك.
“في كل إنسان ينام نبي. عندما يستيقظ يكون الشر قد زاد قليلا في العالم”.
“مع كل فكرة تولد فينا، يتعفن شيء ما فينا”.
“اليأس موثَّق، الأمل وهْم وتخييل”.
“كلما أحاطت بنا المصائب، جعلتنا تافهين أكثر: حتى مساعينا تتغير. تدعونا المصائب إلى التبجح، تخنق فينا الشخص كي توقظ الشخصية”.
((أحمد سيف الدين، موقع “عيون eyoonn)

*

من ترجمات محمد علي اليوسفي

Henri Matisse – Le bonheur de vivre

Matisse: The Joy of Life 1905-1906


السعادة

خورخي لويس بورخيس
آدم هو من يُقَبِّل امرأة. والمرأة حوّاء.
كل شيء يحدث لأول مرة. رأيتُ شيئا أبيض في السماء، قيل لي القمر. لكن، ما عساني أفعل بكلمة وبأسطورة. الأشجار تخيفني قليلاً. إنها في منتهى الجمال. الحيوانات الهادئة تدنو مني كي أقول أسماءها. ما من حروف في كتب المكتبة، وعندما أفتحها تلوح. أتصفّح الخارطة مخطِّطًا شكلَ سومطرة. منْ يُشعلْ عودَ ثقاب في الظلام يكُنْ بصدد اكتشاف النّار. في المرآة شخص آخر يتربَّص. منْ ينظرْ إلى البحر يرَ انكلترا. منْ يردّدْ بيت شعر من ملحمة ليليانكرون يدخل المعركة. حلمتُ بقرطاجة وبالجحافل التي دمّرت قرطاجة حلمتُ بالسيف وبالميزان. مباركٌ هو الحب الذي ليس فيه مالك او مملوك، بل عطاء متبادل. مباركٌ هو الكابوس الذي يكشف قدرتنا على خلق الجحيم. منْ ينزل محاذياً نهراً، ينزل محاذياً “الغانج”. منْ ينظرْ الى ساعة رملية يرَ انحلال امبراطورية. من يلعبْ بسكين يخمّنْ موت قيصر. من ينْم هو كل الناس. في الصحراء، رأيت أبا الهول الفتيِّ وقد تمّ تكوينه للتوّ. لا قديم تحت الشمس. كلّ شىء يحدث للمرة الاولى، ولكن إلى الأبد. من يقرأْ كلماتي يكنْ بصدد ابتكارها.

نزهة

من الإفراط في الشُّرْب يأتي الزمن بسرعة
والمساء يُبْعِدُنا أكثر.
ماءُ الصَّخرةِ بُنَيَّةٌ
يُرادُ الإمساك بها من فستانها.
(يوجين غيللفيك)

*
نشيد

في هذا الصباح
عطرٌ مدهش من ورود الجنة
يفوح في الأجواء.
على ضفّة الفرات
يكتشف آدم برودة الماء.
مطرٌ ذهبيٌّ يهطل من السماء,
ذاك حبُّ <<زفس>>.
من البحر تقفز سمكة,
وفي اغريجانتي رجلٌ سوف يذكر
أنه كان تلك السمكة.
في المغارة التي سوف يُطلق عليها اسم التاميرة،
يدٌ بلا ملامح ترسم استدارة ظهر
ثور ” البيزون.”
يد فرجيل البطيئة تلامس الحرير الذي جاءت
به القوافل و المراكب من
مملكة ابن التنين .
العندليب الأول ينشد في المجر.
يرى يسوع الصورة الجانبية لقيصر
على قطعة العملة.
يبيّن فيثاغوراس لإغْرِيقييِّهِِ أن
شكل الزمن هو شكل الدائرة.
في جزيرة من المحيط,
كلابُ صيد فضية تلاحق أيائل ذهبية.
على سندانٍ يُطرق السيف الذي سوف يكون
لسيغورد.
ويتمان يغنّي في ما نهاتن.
هوميروس يُولد في سبع مُدُن.
ثمة فتاة اصطادت لتوها كركدن البحر الابيض.
الماضي كله يعود مثل موجة
وتلك الاشياء القديمة تتراجع لأن امرأةً قبَّلَتَْكَ.
(بورخيس)
*

غرفة في الفضاء
كما غناء الورشان
قُبَيْلَ الزَّخَّة الموشكة
– يتعفَّر الهواء بالمطر, بالشمس العائدة –
أستيقظُ مغتسلاً،
أذوب متساميًا، أقطف السماء الغِرَّة.
متمدِّدًا إلى جانبك، أحرّك حريتك. أنا كُتلة ترابية تطالب بزهرتها.
هل من جِيدٍ منحوت أكثر تألُّقًا من جيدك؟ السّؤال موت!
جناحُ تنهُّدِكِ يضع زغَبًا للأوراق.
خطُّ حبّي يُغلق ثمرتكِ، يشربها.
أنا في رعاية مُحيَّاكِ الذي تغطيه ظلماتي فرحًا.
ما أجمل صرختَكِ التي تهبني صمتك!
( رونيه شار)
*
نشيد الحبّ الإنساني
(مقتطفات)


ذات مساء،
بعد حَمْل الشمس طيلة النهار
ابتكروا المرأة.
حفنةٌ من تراب،
وطحْلب له رائحة الماء الأول
قاربٌ يتقدّم،
تاركً أثرًا أصهبَ عبر النّعاس.
***
وهذا المضجع الذي تشكّل وفق حلمهم
استدار كتفًا ناعمةً تحت جبينهم،
صار ثمرةً لبَنيَّةً في راحة يدهم،
وصار، وفق الخاصرة،
نهرًا منعشًا فيه يرتمي التّعب.
***
وإذا الجسد الجميل يتفتَّح تحت سكَّة حرثهم:
إنّه الكدُّ الصّباحيّ،
ثيران الليل على التّلال!
شمس صهباء الزّغب
تتوهّج على صدور الرجال
إذْ يتقوَّسون في حركات الحب…
(بيار إيمانويل)
*
(ملاحظة واحدة) من 100 ملاحظة من أجل عزلة
بسبب انعدام الرّوح
يودُّ لو يمتلك جسدًا ثانيًا.
السّناجب تتقافز فوق المَرج
أتكون خائفة من يديه الفاترتين؟
يُصْدِر حُكمًا سيئًا
على الزّبد والكلمات التي تغطّيه.
ولأنه مفْرط في الكثافة، يطمح
إلى العيش على سطح ذاته.
أحيانًا يتحوّل إلى ساعة ترصد الوقت.
(ألن بوسكيه)
*
أغنية للاستراحة
لوسألني أحدهم
ما القصيدة,
لتردّدت بضع ثوانٍ.
ومع ذلك أعرفها جيداً!كنتُ أعيد قراءة الشعراء الموتى
ومن وقت لآخر
تضيء قصائدُهم طريقي
مثل شعلة في الظلام

غير أن الحياة لا تسير متباهيةً دوماً,
فأحيانا تهتزُّ, فتخبط
وترفس.

وغالباً ما كنتُ أبحثُ عن الحبّ خبط عشواء
مثل الذي فقد بصرَه
وصار يبحث, فوق أغصان شجرة التفاح,
عن استدارة ثمار
ترغب فيها كفُّهُ.

وأعرف قصائد
قوية مثل وصفة سحرية
تستطيع فتح أبواب الفردوس.
كنت أهمس بها أمام عيون دَهِشة.
فكيف لا تستطيع رفع يدين هشّتَيْن وجلتيْن
تحميان عناق الحبّ.

لكن, لو أن أحدهم سأل امرأتي
ما الحبّ,
فلربّما أجهشت بالبكاء.
(ياروسلاف سيفرت)

*
المجنون
العربة متوقِّفة قبالة البحر،
محَمَّلة بستَّة براميل حديديّة حمراء،
وبرميل آخر ذي لون أخضر مفاجىء. الحصان
يرعى في المرج. وسائق العربة
يسكر في الحانة. توقَّف مجنون الجزيرة
فوق مكسر الأمواج وصاح:
” بذلك الأخضر، هناك، سوف أهزمكم ”
وأشار إلى البرميل السابع من دون أن يعرف
حتى ماذا يحتوي ومَنْ صاحبُهُ.
(يانيس ريتسوس)
*
فتُوَّة
وثبة الموجة
أكثر بياضًا
كل ساعة
أكثر اخضرارًا
كل نهار
أكثر فُتُوَّة
الموت

(أوكتافيو باث)
*
من شذرات سيوران
في التخلص من الحياة حرمان من سعادة السخرية منها. هذا هو الرد الوحيد على من يخبرك بأنه يرغب في التخلص منها.
*
المادح: كثيرا ما يكون عدوًّا مستقبليا.
*
أجدى طريقة لاكتساب أصدقاء أوفياء أن تهنئهم على فشلهم.
*
المبالغة في الحديث عن الجنس تفسده. الذروة الجنسية لم تكن حدثا فلسفيا قط.
*
عندما نموت نصير سادة العالم.
*
إذا كنت أفضل النساء على الرجال فلأنهن يتميزن عن الرجال باختلالٍ أشد في التوازن، وبالتالي، بتعقيدٍ أكثر، وتوقدِ ذهنٍ وصلافة، من دون نسيان ذلك السمو الغامض الذي تمنحهن إياه عبودية القرون.
*
يقاس عمق أي هوى بالمشاعر الدنيئة التي تسكنه والتي تضمن كثافته وديمومته.
*
لا توجد الموسيقى إلا بمقدار زمن الاستماع، مثل الإله لا يوجد إلا بمقدار ديمومة الوجد.
*
الفن السامي والكائن السامي يشتركان في كونهما يتوقفان علينا كليا.
*
الكآبة تتغذى من ذاتها، ولهذا لا تعرف كيف تتجدد.

(إميل ميشال سيوران)

*

Eugène Guillevic-L’Arbre

قصيدة “الشجرة” للشاعر الفرنسي يوجين غيللفيك؛ ترجمة محمد علي اليوسفي

 Traduit par Mohamed Ali Yousfi 

ولد الشاعر الفرنسي يوجين غيللفيك في مدينة كرنك من مقاطعة بروتاني الفرنسية سنة 1907. درس الرياضيات والاقتصاد وعمل في وزارتيْ المالية والاقتصاد منذ 1926. تقاعد سنة 1967 من عمله وكان في منصب مفتش في الاقتصاد القومي. ناصر الشيوعيين منذ الحرب الأهلية الأسبانية وانتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية. بدأ بالنشر متأخّرًا فأصدر أول مجموعة شعرية سنة 1942. من أعماله: كرنك، الربح، المدينة، الدائرة، إحدى وثلاثون سونيتا، إلخ… توفّي يوجين غيللفيك سنة 1997.

الشجرة

تعال إلى داخلي،

قالت الشجرة.

فضاؤك فيَّ

وليس في مكان آخر.

كُنْ شجرة. كنْ

هذه الشجرة التي أكون.

*

لن تحتاج

إلى الذّهاب والإياب.

لن تحتاج إلى البحث

عمَّا يجب أن تجد

ولا مجال للقلق

من عدم العثور عمَّا تبحث.

لا حاجة للبحث أيضًا،

لا حاجة للتذكّر

لما ينبغي أن تفعل

ولا للزمن الذي تقيس.

*

هنا، نعرف دائمًا

ماذا نفعل بالدقائق،

أما أنت فلن تحتاج

إلى عيش الدقائق،

لن يبقى في أعماقك

إحساس بالزمن،

فهنا، دائمًا

توجد اللحظة الوحيدة ذاتها

التي نقضيها في

نقل النّسغ

حتى في الشتاء

عندما تحسبني ميتة.

*

سوف تعيش كيانًا ممتلئًا

وتكون أنت دائمًا،

من الشروش

إلى ذؤابات الأوراق.

سوف تكون مملكة ذاتك

من دون حاجة إلى الحكم،

من دون حاجة إلى المعرفة،

والبتّ في الأسئلة.

*

لن تسأم

من ضرورة السّأم

لأنك سوف تكون

هبَةً دائمة لفعلك.

سوف تحاذي أيضًا

ما تعرف أنها تُخومك

ولن ترغب حتى

في محاولة اجتيازها.

*

سوف تكون في مركز ذاتك

ويكون مركزك

كلَّ ما يشكّل

شجرةً سوف تصيرها.

*

لن تحتاج أبدًا

إلى الاهتمام بالآخرين.

لن تنتظر قدومَكَ

عند وصول الآخرين.

سوف تكون تلك المملكةَ

التي تحكم ذاتها،

إليك تأتي الريح،

الطيور، الحشرات

وإذا لم تأتِ

فلن يُضيرَك ذلك.

لن تضحِّي ليلاً

أو نهارًا،

لن تحلم

بتغيير قدرك،

بالتّوصُّل إلى النّفوذ

على ما لستَ أنت،

بالتخلّص من قوانين

تكون هي دروبك.

لن ترتجف كما اعتدت

أمام الأفق.

*

حتى صيحة الدّيك

لن تكون أمْرًا.

*

سوف تعيش

في الامتلاء

*
Par Ali Mosbah
*
الأكذوبة الشعرية المتعلقة بالحيوان
لاشيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد بالعبد، لاشيء بإمكانه إقامة السيادة من جانب والتبعية من الجانب الآخر. وبالنظر إلى أن بعض الحيوانات تفترس حيوانات أخرى، فهي ذات قوة غير متكافئة، لكن لا يوجد بينها سوى هذا الاختلاف الكمي. وليس الأسد ملكا على الحيوانات: إنه في حركة المياه مجرد موجة أعلى من غيرها، تقلب الأضعف.
وإذا افترس حيوان حيوانا آخر، فإن ذلك لا يغير شيئا من الوضع الأساسي: كل حيوان هو في العالم كما الماء في الماء. ثمة في الوضع الحيواني عنصر من الوضع البشري، إذ يمكن النظر إلى الحيوان كذات، موضوعها بقية العالم، لكنه – هو بالذات – لم يعطَ إمكانية أن يرى نفسه كذلك أبدا. ويمكن للعقل البشري أن يدرك بعض عناصر هذا الوضع، لكن ليس بوسع الحيوان استيعابها.
***
لاشيء في الواقع يعتبر أشد انغلاقا علينا من هذه الحياة الحيوانية التي جئنا منها. ولاشيء أغرب عن طريقتنا في التفكير من الأرض وهي في حضن الكون الصموت من دون أن يكون لها ذلك المعنى الذي يضفيه الإنسان على الحيوان، وكذلك من دون لا- معنى الأشياء في اللحظة التي نريد تخيُّلها، فإذا هي مفتقرة إلى وعي يفكر فيها. وفي الحقيقة لا يمكننا أن نتصور الأشياء من دون الوعي إلا بشكل اعتباطي، نظرا إلى كون “نحن” و “نتصور” يتضمنان الوعي؛ أي وعينا المرتبط بحضورهما ارتباطا وثيقا. ويمكننا الإدعاء، من دون شك، أن هذا الارتباط هو مجرد ارتباط هش، نظرا لكوننا سوف ننقطع عن أن نكون هنا ذات يوم، بشكل نهائي. غير أن تجلي أي شئ من الأشياء لن يكون قابلا للتصور أبدا إلا في وعي يحل محل وعيي إذا ما تلاشى هذا الأخير. وهنا تكمن حقيقة مرة، لكن الحياة الحيوانية، وهي في منتصف طريق وعيـ”نا”، تقدم لنا لغزا أكثر إزعاجا. فعندما نتصور الكون من دون الإنسان؛ الكون الذي من شأن نظرة الحيوان فيه أن تكون النظرة الوحيدة التي تنفتح على الأشياء، والحال أن الحيوان ليس شيئا وليس بشرا، لا يسعنا عندئذ سوى إيجاد رؤية، فيها لا نرى شيئا، لأن موضوع هذه الرؤية هو انزلاق ينتقل من الأشياء التي لا معنى لها إذا كانت وحيدة، إلى العالم الممتلئ بالمعنى المترتب على الإنسان والذي يضفي على كل شئ معناه هو. ولهذا السبب لا يمكننا وصف شيء ما بدقة. وبتعبير آخر، يمكن القول إن الطريقة الصحيحة للتحدث عنه لن تكون حقا سوى طريقة شعرية، نظرًا لكون الشعر لا يصف شيئا إلا وينزلق إلى ما هو خفي. وباعتبارنا نستطيع التحدث عن الماضي عبر التخيل كما نتحدث عن الحاضر، فإننا لا نتحدث في النهاية عن حيوانات ما قبل التاريخ، وكذلك عن النباتات والصخور والمياه إلا بمثابة أشياء، لكن وصف مشهد مرتبط ذي صلة بهذه الشروط ليس سوى حماقة، إلا إذا كان الأمر يتعلق بقفزة شعرية. لم يكن ثمة وجود لمشهد في عالم لم تكن العيون التي تنفتح فيه لتفهم ما تراه، وحيث لم تكن العيون ترى حقا مقارنة بوضعنا. وإذا ما انطلقتُ الآن ببلاهة، وفي فوضى ذهنية، متأملا هذا الغياب للرؤية لأقول: (لم تكن توجد رؤية ولا أي شيء آخر- لاشيء سوى نشوة خاوية يحدها الرعب والألم والموت ونضفي عليها نوعا من الكثافة…) فليس في قولي هذا سوى سوء استخدام لقدرة شعرية، مستبدلا فراغ الجهل بوميض غامض. وأنا لا أعرف ذلك: لا يمكن للذهن أن يستغني عن وميض الكلمات الذي يكسبه هالة مدهشة: في ذلك غناه ومجده، وهي علامة سيادة souveraineté أيضا. لكن هذا الشعر ليس سوى طريق يسلكه الإنسان منتقلا من عالم ذي معنى ممتلئ، إلى التفكيك النهائي لكل معنى، وهو تفكيك سرعان ما يبدو محتوما. ولا يوجد إلا اختلاف واحد بين لامعقولية الأشياء التي يكون الحيوان حاضرا فيها. فالأولى تقدم لنا أولاً الاختزال الظاهري للعلوم الصحيحة، في حين تدفعنا الثانية باتجاه إغراء آخر لزج، هو هاجس الشعر، ذلك أن الحيوان الذي لا يعتبر مجرد شيء فحسب، ليس مغلقا وعصيا على الفهم بالنسبة إلينا. يفتح الحيوان أمامي عمقا يجذبني وهو عمق مألوف لديَّ. إنني أعرف هذا العمق بمعنى من المعاني: انه عمقي أنا. وهو أيضا أبعدُ ما اختُلِسَ مني، ويستحق اسم العمق الذي يعني بدقة: ما يفلت مني.لكنه الشعرأيضا… ولأنني أستطيع أيضا أن أرى في الحيوان شيئا (إذا أكلته – بطريقتي التي ليست طريقة حيوان آخر- أو سخرته أو عاملته كموضوع علم من العلوم) فإن لامعقوليته ليست أقل قِصَرًا (أو إن شئنا، أقل قُرْبًا) من لامعقولية الحجارة أو الهواء، لكنه ليس دائما، بل انه لا يكون أبدا وبشكل نهائي، قابلا للانتقاص ضمن هذا النوع من الواقع الأدنى الذي ننسبه للأشياء. لست أدري ما الشيء اللطيف، الخفيّ، والمؤلم الذي يمدد في تلك الظلمات الحيوانية حميميةَ الوميض المتبقي فينا. وكل ما يسعني الاحتفاظ به في النهاية يكمن في أن ذلك المشهد يلقي بي في الليل ويبهرني، فيدنيني من اللحظة التي- ولن أشك في ذلك مطلقا – يبعدني فيها وضوح الوعي المتميز، في النهاية، عن تلك الحقيقة الخفية التي، من ذاتي إلى العالم، تتراءى لي كي تتوارى.

(جورج باتاي، من كتاب ” نظرية الدين“)

*

من ترجمات محمد علي اليوسفي

Top ↑ Haut ↑ فوق

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.